أحدث الاخبار

تابعونا

الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء عندما تصبح محط الأنظار.. تحديات

يراهن الباحثون في مختلِف أنحاء العالم على أن بث الطاقة الشمسية من الفضاء سيمثل أحد أهم الإنجازات في مجال تأمين طاقة نظيفة لكوكب الأرض

من الوارد أن يكون ابتكار أولى الخلايا الكهروضوئية التي تستمد طاقتها من ضوء الشمس مباشرةً على يد المخترع تشارلز فريتس في ثمانينيات القرن التاسع عشر قد دفع البعض إلى التكهن بأن ذلك الإنجاز سرعان ما سيأتي بثورة في مجال إنتاج الكهرباء على مستوى العالم، وهو تكهُّن منطقي؛ إذ يُعَد ضوء الشمس الأقل تكلفةً والأكثر نظافةً وانتشارًا من بين مصادر الطاقة جميعها، لكن بعد مرور حوالي مئة وأربعين عامًا على بزوغ نجم الطاقة الشمسية، وبالرغم من التطورات التقنية الهائلة –والمتواصلة- التي جعلت الطاقة الشمسية أعلى قدرةً وأقل سعرًا من أي وقت مضى، فإن نسبة الاعتماد على الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء حول العالم لا تزال أقل من خمسة في المئة، يرجع ذلك إلى أن الطاقة الشمسية -على تعدُّد مزاياها- لها عيوب قد تحول دون الاستفادة منها على أكمل وجه، ومن أهمها العيب المتمثل في أنه ما من لحظةٍ تمرُّ على الكوكب إلا والظلام يخيم على النصف غير المواجه للشمس منه.

كان مهندس الطيران الأمريكي بيتر جليسر قد تحدث بالتفصيل في عام 1968 عن حلٍّ محتمل للمشكلات المرتبطة بتلك العيوب، وهو حلٌّ اهتدى إليه بالتفكير “خارج الإطار” والتطلع إلى ما وراء الغلاف الجوي للكرة الأرضية؛ فبدلًا من بناء مزارع شمسية عملاقة فوق مساحات شاسعة من الأرض التي ستصبح معرضةً للأخطار البيئية التي ينطوي عليها التوسع في توليد الطاقة الشمسية، اقترح جليسر نقل الخلايا الكهروضوئية إلى مدار الأرض على متن أساطيل من الأقمار الصناعية التي تعمل بالطاقة الشمسية، وهناك، عند المدار، حيث لا يخفت ضوء الشمس بفعل الغيوم ولا يتأثر بتعاقُب الليل والنهار، يمكن جمع ذلك الضوء بكفاءة قصوى، ثُمَّ بثه في موجات دقيقة إلى “هوائيات تقويم” أرضية (أو ريكتينات)، وهكذا، فحين تعود الموجات الدقيقة إلى الأرض، يمكن تحويلها إلى كهرباء وضخها في شبكات توزيع الطاقة المنتشرة في جميع أنحاء العالم.

آنذاك، كانت تكلفة إطلاق الرحلات إلى الفضاء مرتفعةً للغاية، أما أداء الخلايا الكهروضوئية فكان منخفضًا للغاية، واستمر ذلك الوضع عقودًا، مما حال دون تنفيذ فكرة جليسر المبهرة على أرض الواقع، ولكن مع التقدُّم التقني الذي نشهده اليوم، وفي ظل تزايُد الحاجة إلى الطاقة النظيفة، اكتسبت فكرة توليد الطاقة الشمسية من الفضاء زخمًا جديدًا، كان من بين مؤشراته تدشين مشروعات تجريبية في هذا الاتجاه في الولايات المتحدة والصين وأوروبا واليابان، وإذ ترتفع موجة جديدة من موجات البحث العلمي في هذا المجال، ثمة سؤال يظل مطروحًا ومفاده: هل ستُثبِت الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء جدارتها عندما تصبح محطَّ الأنظار؟

التطلُّع نحو المستقبل

في الولايات المتحدة، تدرس وكالة «ناسا» الآفاق الحالية والمستقبلية لتوليد الطاقة الشمسية من الفضاء دراسةً متمعنة، وذلك على خلفية النمو السريع في صناعة ارتياد الفضاء والتهديدات المرعبة المرتبطة بتغير المناخ، وفي هذا الصدد، يقود نيكولاي جوزيف -مُحلِّل السياسات في مكتب التقنية والسياسات والإستراتيجية التابع لوكالة «ناسا»- فريقًا من الباحثين العاكفين على استكشاف أبعاد عملية توليد الطاقة من الفضاء، وذلك ضمن دراسة تابعة لمكتب التقنية والسياسات والإستراتيجية، وتختص بالنظر في هذه الطريقة دون غيرها من طرق توليد الطاقة، ويقول جوزيف إنه من المنطقي أن يُجري مكتب التقنية والسياسات والإستراتيجيّة مثل هذه الدراسة، نظرًا إلى الاهتمام العالمي المتزايد بما تنطوي عليه الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء من مزايا كامنة قد تُغيِّر مسار حياتنا.

قول جوزيف: “ظلت فكرة الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء مثارًا للاهتمام عقودًا من الزمن، ولكن صناعة المركبات الفضائية التي قد تستفيد من هذه الطاقة وإطلاقها ظلَّ أمرًا باهظ التكلفة إلى الحد الذي حال دون تحقيق الفكرة”، ويستدرك جوزيف فيقول: “ثمة فرصة اليوم لكي يتغير هذا الوضع في ضوء ما جرى خلال العقد الماضي من تطورات تقنية ونمو في صناعة ارتياد الفضاء… فمن الأهمية بمكان أن نعيد النظر بصورة دورية فيما هو مطروح من الأفكار الجيدة، وأن نستكشف الخيارات المتاحة صوب تنفيذها، وعليه، فإن وكالة «ناسا» في حاجة إلى أن تكون على علم بجميع السيناريوهات الممكنة في هذا المجال؛ لأن ظهور الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء سيتقاطع مع العديد من اهتماماتنا الأخرى في الوكالة ويؤثِّر فيها، كما ينبغي للوكالة أيضًا الاطلاع على كل جديد فيما يخص تقنيات الفضاء ودراسة جميع جوانبها، بعبارة أخرى، ينبغي أن نتطلَّع دائمًا نحو المستقبل”.

هذا المستقبل، بالنسبة لوكالة «ناسا»، قد يشهد الاستفادة من الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في نشاطات تُدار خارج كوكب الأرض، ومن ذلك دعم برنامج «آرتميس» الواعد، وهو برنامج تابع للوكالة يستهدف إطلاق رحلات مأهولة لاستكشاف القمر؛ فعلى سبيل المثال، يمكن لتوافُر الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في محيط القمر أن يُسهم في تعزيز وجود قواعد مأهولة بالبشر على سطح القمر وتفعيل الأنشطة الاستكشافية الأخرى هناك، والأكثر طموحًا من ذلك هو أنه يمكن في يومٍ ما الاستفادة من الطاقة التي تُبَثُّ من هناك في إرسال المركبات الفضائية إلى وجهات تتطلَّب السفر بين الكواكب، بل بين النجوم أيضًا، وذلك دون تكبُّد عناء حَمْل الوقود المُحرِّك لهذه المركبات على متنها.

هل يقدم توليد الطاقة الشمسية من الفضاء حلًّا سحريًّا لجميع مشكلات الطاقة؟

أما على الأرض، فنجد أن البعض يرى في الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء وسيلةً مثاليةً لبلوغ صافي انبعاثات صفري من الغازات الدفيئة مع الاحتفاظ بمخزون ثابت ومستدام ووفير من الطاقة؛ فعلى النقيض من الكهرباء المُستمدَّة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الأرضية، وكلاهما أكثر تعرضًا للتغيرات الناجمة عن تقلبات الظروف المحيطة، يمكن أن تعمل الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء على مدار الساعة (لتوفر بذلك ما يُسمى بـ”طاقة الحِمل الأساسي”)، كما أنها تتيح توزيع الكهرباء توزيعًا مرنًا وسريع الاستجابة عبر شبكات الطاقة وفيما بينها (فيما يُعرف بـالطاقة “القابلة للتمدُّد والانتشار”).

يقول مارتن سولتاو، المُحلِّل في شركة «فريزر-ناش» للاستشارات Frazer-Nash Consultancy والرئيس المشارك لمبادرة «الطاقة من الفضاء» Space Energy Initiative ومقرها المملكة المتحدة: “تتميز الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء عن غيرها من أنواع الطاقة الأخرى بقدرتها على توفير كلٍّ من الطاقة الأساسية والقابلة للتوزيع على نطاق مدنٍ بأكملها، ما يجعلها إحدى أهم التقنيات الجديدة في مجال الطاقة النظيفة”، ويُردف سولتاو قائلًا: “هناك ميزة أخرى لهذا النوع من الطاقة، وهي أن إعادة هندسة الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء لا تتطلب وجود شبكات كهربائية، ومن هنا، بنينا تصوُّرًا يقوم على وضع هوائيات التقويم الأرضية بالقرب من التوصيلات البينية للشبكات القائمة بالفعل، كأن نضعها في مواقع مجاورة لمزارع الرياح البحرية الموجودة حاليًّا على سبيل المثال”، ومن هذا المنطلق، تسعى مبادرة «الطاقة من الفضاء» -بوصفها شراكة بين الحكومة ورواد الصناعة والبحث العلمي- إلى بناء أسطول من مركبات الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء ثُمَّ ربط هذه المركبات بشبكة الطاقة في المملكة المتحدة بحلول أربعينيات القرن الحالي، ووفق تصوُّر المبادرة، من المتوقع أن يكون إنتاج الكهرباء لكل مركبة فضائية ضمن هذا الأسطول مساويًا تقريبًا لما تنتجه أي محطة توليد طاقة تعمل بالفحم أو الوقود النووي.

غير أن تحقيق أيٍّ من التصورات السالف ذكرها يستلزم خوض جولات صارمة من الاختبارات في الفضاء، لذلك تعتزم مبادرة «الطاقة من الفضاء» بدء عملها بإطلاق مركبة تجريبية بحلول عام 2030، بحيث تختبر إمكانية تنفيذ هذه التصورات داخل مدار الأرض قبل إطلاق أسطول الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء المنشود بأكمله.

يقول سولتاو: “لعل أهم تقنيتين ينبغي الانشغال باختبارهما والتحقق من إمكانية تنفيذهما في الفضاء في مرحلة مبكرة هما الاعتماد على الروبوتات في تجميع تلك الهياكل الضخمة [أي الألواح الكهروضوئية الشمسية] وإرسائها دون تدخُّل بشري، وبث الطاقة من الفضاء إلى الأرض بمستويات عالية بالقدر الذي يسوِّغ حجم الجهد المبذول في هذه العملية”، ويضيف: “هناك الكثير من القضايا المهمة الأخرى التي يجب تناوُلها، ومنها بيئة العمل التي ستخلقها اللوائح المُنظِّمة لاستخدام كلتا التقنيتين، وكذلك عملية تخصيص الأطياف الترددية لبث الطاقة من هذا النوع”.

وضع التقنيات المتطوِّرة قيد الاختبار

جدير بالذكر أن مبادرة «الطاقة من الفضاء» ليست الوحيدة التي تسعى لإجراء اختبارات عملية تتحقق من كفاءة الأجهزة ذات الصلة بـالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء على أرض الواقع؛ إذ تلاحق مشروعات كثيرة أخرى المساعي نفسها في جميع أنحاء العالم.

على سبيل المثال، شيَّدت الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا الفضاء وجامعة سيديان في الصين هيكلًا ضخمًا من الألواح الكهروضوئية الشمسية لعرض التقنيات الجديدة التي يمكن الاعتماد عليها في تركيز ضوء الشمس والنقل اللاسلكي للطاقة، يحمل المشروع الاسم الرمزي “جوري” باللغة الصينية، أو “مطاردة الشمس” بالعربية، ويستعين في مهمته ببرج فولاذي ارتفاعه 75 مترًا تم بناؤه في جنوب حرم جامعة سيديان، وقد تم تصميم هذا المرفق الجديد لاختبار تقنية نظام «أوميجا» OMEGA، أو المصفوفة الدائرية لتجميع الطاقة، والتحقُّق من كفاءتها، وهو نظام يهدف إلى تكثيف ما يُجمع من الطاقة الشمسية في المدار الثابت للأرض.

شارك :

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *